الأربعاء، 25 مارس 2015

الرجوع إلى الماضي لا يعني البقاء فيه ..

الرجوع إلى الماضي لا يعني البقاء فيه ..

الحنين للماضي يثير ويشحذ قريحة الشعراء

كل يحنّ إلى ماضيه لأنه عاشه، وكل بقيت في أمسه بقايا من ذكريات طفولته، نعم الكثير منا وليس القليل؛ له حضور في يومه وله نظرة شوق وحنان إلى ما مضى، يعيش عمره وعين هنا وأخرى هناك، وحتى الذين لم يعيشوا ذاك الزمن البعيد لصغر السن ولأنه فاتهم زمنه، هم أيضا كذلك يميلون إليه بالسماع والانتماء العام بحكم التأثير الأسري والمحيط الاجتماعي، لأن هذه الأوساط نقل إليهم الكثير من أسلوب حياة الأولين وصورة متكاملة عن تلك الحياة الهادئة وأهلها وما جرى فيها ، أولئك الذين هم آباؤنا وأجدادنا .
وبهذا التواصل السماعي وتقريب الصورة أمامهم ، وجدوا الكثير مما يتوافق مع طبيعة الناس ، حيث البساطة والطيبة والقرب من الطبيعة ، ولهذه الأسباب تعلقوا بصور ولو خيالية منه وأخبار أهله وسماع قصصهم واستعراض أساليب حياتهم ورؤية ما بقي من آثارهم.
يا دار وين اللي سكن فيك يا دار يا دار وين اللي بنى وسطك السور

وفي الوقت نفسه ومع هذا الحب والحنين للأمس لم يكن الهدف هو العودة ورفض الواقع ، بل إننا نخشى كلنا وبلا استثناء البقاء هناك بلا عودة أو الجمود بلا حركة، والكثير منا يردد العبارة التحذيرية من الوقوف هناك وعدم التحرك نحو الأمام ، والعبارة تقول ( إذا كنت تعيش في الماضي فقد أضعت الحاضر والمستقبل ) نعم هي عبارة تتضمن شيئا من الحقيقة وجانبا كبيرا ومقنعاً من المصداقية ، ولكن المعنى الذي يمكن الوصول إليه أيضا ويغلب على فحواها كعبارة صيغت لتعطي رسم خارطة طريق هو: رفض البقاء في الماضي بلا عودة ولا اهتمام بالحاضر، والتحذير من فقد بوصلة الاتجاه الصحيح وفقد جهة المستقبل ، وبلا شك فخوف مثل هذا يعد في محله وهو مما تطلبه الحكمة ويفرضه العقل.
إن في ماضينا مكارم أخلاق وطيب سجايا وعادات كثيرة لأهله حسنة وبسيطة وأسلوب حياة سهل ومتواضع، والإشكال فقط ينحصر في حال الغياب داخل الماضي والغرق فيه وعيشة العزلة والانقطاع عن الواقع المعاش ورفض الاستمرار في الحياة وعدم التفاعل مع المتغيرات، دون اهتمام بمسيرة الحياة التي لا تعرف التوقف والجمود ولا تقبل التراجع. وإلا فإن اصطحاب الجميل في كل الماضي والاستمرار في مرافقته لحياتنا يعد ضرورة ، وهو جزء من جانب المحافظة على الكثير من القيم التي شكلت أسس تربوية واجتماعية واقتصادية وإدارية وغيرها ، ففي رفوف الأمس يتم الاحتفاظ بكل أصول ملفات القيم والتجارب والخبرات الناجحة والارث الحضاري الذي لا يستغنى عنه ، وليس من الممكن تجاهله إذ يعد حلقة وصل بين الأجيال وتعاقبها ، وإذا كان ذلك الارث القديم قد حجبه عن الحاضر انبهار سريع بما بين أيدينا فليس معنى هذا نسيان ماضينا المشرق والاستغناء عنه فمن ليس له ماض ليس له حاضر ، ومن انقطعت جذوره ماتت أغصانه المورقة والمثمرة ومستقبله كله .
فالماضي مهم و لابد أو نزوره بذاكرتنا كي لا ننساه ، ونبقيه دوما بجانبنا، فالبعض منا لا يريد سماع شيء من الماضي ، بل يعتبره صفحة في كتاب وقد قلبت تلك الصفحة إلى الأبد ، ويظن أيضا أن العالم حتى من هم متقدمون في صناعاتهم غافلون عن ماضيهم قد أداروا له ظهورهم وهو غير صحيح. إن صفحة الأمس مهمة ، ذلك لأنه من الرشد فهم ما حوته وما سطر فيها حتى ولو كانت تلك الصفحة قد مر الزمن واصفر لونها من القدم . فأوراق الحياة وقراطيس تجاربنا كلها ، ماضيها وحاضرها، خبرات السابقين الذين لا يمكن أن نتجاهلها، ومنجزاتهم وخطواتهم التي خطوها قبلنا وهي بالنسبة لنا رصيد وما نضيفه سيكون لمن بعدنا كذلك. وإذا كانت الحياة دروسا تزداد مع الوقت ومع تعاقب الأيام ، فإن الاستغناء عن تلك الدروس نوع من فرض البداية دوما من نقطة الصفر، والبقاء في أسفل درجات السلم.
إن صفحة الحياة التي مضت تاركة بقية من سطورها وصورها ولو مجرد أطلال وبقية من جدران ودور خالية فهي بكل ذكرياته تسمى الأمس، ولو تكرر ما يماثله فإنما هو شبيهها لكنه لن يعود كما كان ، ولهذا يخاطبه الشعراء بصيغة فيها الكثير من الوجع والألم والبوح بتأثير الجرح الذي في داخلهم لسبب واحد فقط وهو أن ما مضى سيبقى في ملفات الأمس لا يمكن عودته. يقول الشاعر فالح الحمياني العتيبي:
يا دار وين اللي سكن فيك يا دار
يا دار وين اللي بنى وسطك السور
يا دار وين اللي بنى الحصن بحجار
فوق الصفا مبني وبالعز معمور
مبني على صمّ الصفا شغل بيطار
يحمي حماك إليا تناحوا على الكور
يا دار وين اللي يخِيلون اﻷ‌مطار
واديهم اﻷ‌خضر من الخير ممطور
إن سال واديهم جنوا حلو اﻷ‌ثمار
من روس غرساتٍ لها البال مسرور
يا دار ظليتي فخر بين اﻷ‌قطار
واليوم حيك بين اﻷ‌قطار مهجور
دارت بك الدنيا على كف اﻷ‌قدار
هدم القرى في محكم الشرع مذكور
أبكي على ماضيك يا دار اﻷ‌حرار
أدعي عسى من مات يسكن مع الحور
ورغم أن الماضي لا يعود، و أن عقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء، إلا أن بصمات الأمس لا بد أن تسهم في المستقبل، ولا خير في حدث لا يبقي له أثر إيجابي لمن يأتي بعد، وإلا كيف تنتقل الخبرات من جيل إلى جيل إذا كان الماضي يحفظ في أضابيره العتيقة ومجموعة ملفاته وحزم أوراقه ، ويطوى زمنه بلا التفاتة ، وليس شرطا أن يعود الماضي كما هو بكل ظروفه الزمانية والمكانية وطبيعته ، ولكن المراد بقاء ما فيه من خصال طيبة وذكريات فتكون أساسا ولبنة يبنى عليها حاضر ومستقبل ، خاصة إذا علمنا أن رؤية الشيء بعد مغادرته تكون أكثر شمولية وأقدر على تمييز غثه من سمينه ونقده بموضوعية .
وحتى لو أردنا نسيان ماضينا وحياتنا السابقة التي عشناها في طفولتنا التي نتصور كل تفاصيلها اليوم ، فإن الوجدان لا يقوى على مسحها ونسيانها ، ولا أحد يقول بذلك ، فطبيعة الحياة متدرجة كما هو ظل الشمس في إشراقتها وأفولها ومن ثم إشراقة جديدة فالظل من البعد الزماني قد يخفي ولكنه لا يعني زواله بالكلية ، كما لا يلغي أثره على المستقبل. يقول الشاعر فهد الهلالي:
اليا مني كتبت القاف على المسحوب بكاني
يهل الدمع من عيني حسيرٍ يالله الخيره
يذكرني بعصرٍ فات عقب مالوقت نساني
واجر الصوت على ربعٍ هجيرٍ واخلوا الديره
عرفت ان الجفاء جلاد وعلى غيري تبداني
بوسط القلب ركز رمحه واشوف خيوله مغيره
ألا يالصبر وين القاك دبلت الجرح وادماني
واحس الجرح كما سيخٍ تجمر داخل النيره
تمادى في معاليقي سحبته بوقت ممداني
كما دلوٍ قطع برشاه تطوى في صفا بيره
على ذكرى القصر ونيت ونين حطم اشجاني
يخن الصوت في صدري كما مروس على زيره
خيالٍ يسبق الذكرى وقف بالباب ناداني
يذكرني على اللي راح من الخلان والجيره
أما الشاعر محمد السكران الذي كان يسكن في بلدة السكران الواقعة في ناحية السر بوسط نجد، فيقول بعد رؤيته القصر الذي كان يسكنه في شبابه وعاش فيه حتى كبر سنه وانتقل هو وأولاده عن البلدة، يقول وهو يعود لقصره وقد تهدم الكثير منه والحنين إلى المكان يملأ قلبه وتصور الحياة السابقة فيه لا تزال في مخيلته:
يا قصر أنا كل ما مريت تبكيني
ابكي وانا اشكي على اللي يبخص الحالي
وليا نصيتك يكف الدمع عن عيني
واليا دخلتك يزول الهم عن بالي
قالوا لي الناس قصرٍ ما هو بزيني
قصرٍ هدامٍ ولا بالقصر منزالي
قلت ايه احبه و أوده والقصر زيني
واللي سكن فالحزم يلحق به التالي
الف اولف من كلام نظيفى
ودموع عينى فوق خدى ذريفى
من لامني فى حب ذاك الوليفى
دقاق رمش العين سيد الخوندات
خوندات ياللى مابعد عاشرنه
قلة تراهن بالهوى يذبحنه
قلبى وقلبك يالمولع خذنه
عزي لمن مثلى تعرض للافات
الباء بليت بحب خلى على ماش
ولا حصلى منه مايبرد الجاش
غديت انا واياه طاسه ومنقاش
بالوصف كنه يالمعزى سلامات
سلامات للي هم يذكرونه
يبغى المعزه منه وهي المهونه
يقول طيب مار غارت عيونه
سبب ولدكم واحد صابه ومات
التاء تبعت الزين والزين مقفي
أمشي وحتفى شايله فوق كتفى
لا شفت مجدول وكتف وردفي
ما أقوى التفت لو طوحوا لي بالاصوات

أصوات قالوا يا هبيل وسايح
طرد المقفي يالشقاوى فضايح
قلت ماطعت اشوارهم والنصايح
مثل المطر فوق السحال المكفات

ومن العشاق الذين خلّد الشعر ذكرهم الشاعر "محسن الهزاني"، الذي ولد في النصف الثاني من القرن الثاني عشر في محافظة "الحريق"، ويعده البعض أمير شعراء الغزل، وله قصيدة مشهورة تعد من روائع الشعر الشعبي قال فيها:
قالوا كذا مبسم هيا قلت لا لا
بين البروق وبين مبسم هيا فرق
ويالله.. بنوٍ مدلهم الخيالا
طافح ربابه مثل شرد المها الزرق
لا جا على البكرين بنا الحلالا
ولاعاد لا يفصل رعدها عن البرق
يسقي غروسٍ عقب ماهي همالا
وحط الحريق ديار الاجواد له طرق
يسقي نعامٍ ثم يملا الهيالا
ويصبح حمامه ساجعٍ يلعب الورق



ولاشك أنّ هناك العديد من العشاق المعاصرين؛ مما لا يتسع المجال لذكرهم ولكن نورد عدداً منهم وذلك من ضمن أبيات غزلية للشاعر "عبدالله بن محمد الضويحي" من محافظة "مرات" حيث قال في ذكر بعضهم:
يا بوفهد طرد الهوى به معاناه
معك خبر باللي رمتهم سهومه
فيما مضى لمجنون ليلى وما جاه
عقب الجنون اصبح يشقق هدومه
وعزيز خاله يوم بالبير دلاه
باسباب عليا صار يندم ليومه
ومحسن بحب قويت لا فته دنياه
ومحمد القاضي كونه همومه
وكم واحد ما باح بالسد وابداه
دش الهوى والوجد خابت حلومه